( حدثت وقائع هذه القصة في مكان
ما بأحد البلدان العربية )
كانت تتدلى من عنق المرأة سلسلة ذهبية ، معلقة في نهايتها خرزة زرقاء ، توقفت المرأة عند مبنى متهالك ، تحيط به حديقة جدباء ، كان بابه العتيق مغلقاً ، تلفتت برأسها يمنة ويسرة ، باحثة عن جرس الباب ، وجدته منزوعاً من مكانه وقد برزت أحشاؤه الممزقة نصب عينيها ، طرقت الباب بباطن كفها ، جاءها صوت أجش من خلف الباب :من هناك ؟!
- أنا !!
- يرد الصوت – منْ أنتِ ؟!
- أنا من ضيّعت في الأوهام عمرها !!
يفتح الرجل شقّاً صغيراً من الباب ، تدلف المرأة من خلاله إلى الداخل ، تختار أقرب كرسي ، تلقي عجيزتها عليه ، ترمق الرجل بطرفي عينيها ، ترى شبح ابتسامة خبيثة مرسومة على أساريره ، تضع ساقاً على ساق ، تلاحظ نظراته المكشوفة ، ترخي ذيل ثوبها ، تطوف بحدقتيها أرجاء الغرفة . ، وفي الناحية الأخرى يوجد مكتب وثير ، قديم بعض الشيء ، رصت عليه عدة شهادات ، مكتوب بعضها باللغة العربية ، وبعضها الآخر بلغات مختلفة ، داخل إطارات مزخرفة .
تقول بامتعاض : ها قد أتيت !! ماذا تريد مني ؟! ما هي تهمتي ؟! يجلجل الرجل بقهقهاته العالية في أرجاء المكان ، يجلس خلف كرسيه الجلدي ، يرفع ساقيه ، يضعهما فوق سطح مكتبه ، يتعمّد في وقاحة ظاهرة ، وضع ظاهري نعليه في اتجاهها ، يتفحّص تعابير وجهها ، يقول بلهجة تهكّم : ألم أقسم لكِ أنك ستأتين من تلقاء نفسك ؟! هل اقتنعت أنني الأقوى ، وأنك مجرد ريشة هشة أستطيع سحقها بأصابعي ، أم ما زلت تكابرين ؟!
تجيب بنبرة تطفح بالمرارة : القوة لا تعني أن الحق بجانبك . ربما تكون قد كسبت الجولة الآن ، لكن لا زالت هناك جولات أخرى ، ولا بدّ أن يجيء اليوم الذي ترفرف فيه راية الحق بسماء البشرية . لست وحدك الحاذق في هذه الدنيا !!
يتطلّع بغيظ في هيئتها ، يُمسك قلمه المُذهب ، يرسم خطوطاً دائرية على ورقة بيضاء موضوعة أمامه ، تعاود سؤاله في ألم مكتوم : ما هي تهمتي ؟!
يحدّجها بنظرة متعالية : أنت متهمة بإثارة الشغب في مجتمعك المسالم !!
- أي شغب ؟! أنا مواطنة صالحة .
- بل أنت امرأة متمردة ، تقومين بتحريض بنات جنسك للثورة على أوضاعهن الاجتماعية التي تعوّدن عليها ، وتشجيعهن على المطالبة بحقوق ظلت قروناً طويلة مقتصرة على عالم الرجال !!
- هذه جريمة في حقّي كإنسانة ، أنا أحلم بمجتمع يسوده الإنصاف وتنقية الأجواء القاتمة . أريد للجميع ذكوراً وإناثاً التنفس عبر قنوات من الحريات المسؤولة .
- كفاك خطباً وشعارات ، لماذا تصرين على نشر رياح الشقاق في وطنك ؟! النساء راضيات بحياتهن ، منصاعات بملء إرادتهن لظروفهن دون ضغوط من أحد ،ألا تدركين أن تحفيزهن على الثورة سيحطم الهيكل الأسري ،مما سيؤدي إلى تفكّك بنية المجتمع ؟!
- أنت تزوّر الحقيقة ، لكنني موقنة أن الليل سينبلج عن نهار يفوح من نسماته عبق النقاوة والطهر .
تدمع سحابتا عينيها، تغطي وجهها المصفر بكفّيها المرتعشتين ، يراقب متشفّياً بداية انهيارها ، يتجه صوبها ، يقترب بوجهه منها ، تحس بأنفاسه الملتهبة تلفح جلدها ، يندفع بشبق نحوها ، يحاول تعرية أنوثتها ، تمزيق قميصها ، تقاومه بشراسة ، تدفعه عنها بعنف ، يسقط على الأرض ، تتراجع مذعورة ، العرق يتصبب من مسامها ، تسند ظهرها إلى الحائط ، تزيح خصلة واجفة من شعرها سقطت على غفلة بجانب جفنها ، ترشقه باحتقار ، تصيح في وجهه : أنت نذل تستغل منصبك لإيقاع الشرفاء في مصيدتك ، لا تستهن بي ، أنا امرأة تشعُّ صلابة .
يُعاود الوقوف ، يرتب هيئته ، يرمق بقسوة السوط المعلّق على الحائط خلف مكتبه، تلتقط أفكاره ،تقول بسخرية : اجلدني به إن كان ضربي سيطفئ رغباتك الحيوانية !!
يقطّب ما بين حاجبيه ، تلمع عيناه بوميض وحشي ، يشقُّ دوي ضحكاته صمت الأجواء المشوشة ، يعلّق ساخراً : لا ،لن أجلدك. الجراح تلأمها الأيام ، أنا أريد تحطيمك ، أصنع بداخلك ندبة لا تمحوها السنون ، ولا تطفئها دورة الزمن .
ينادي بصوت جهوري حارسه : تعال ، اجلب ورقة وقلماً ، دوّن كل كلمة سأقولها بدقة متناهية ، في يوم .. وتاريخ.. تمّ استجواب المتهمة ، وإثبات الاتهامات الموجهة لها كافة ، وعلى أثره نطالب بتوقيع أقسى العقوبة عليها لتكون عبرة للأخريات من أمثالها .
يأمر الحارس بتقييدها ، يغمس الحارس يده في جيب سترته ، يخرج حلقتين من الحديد ، تمدّ ذراعيها في كبرياء ، يضع الحارس بجلافة الحلقتين في معصميها ، تحس بوخز الألم . كان الرجل يتطلّع إليها منتشياً ، لهب إنسانيتها المجروحة ينضرم في أعماقها ، تندفع حمم براكين آدميتها على السطح ، تقترب منه ، تبصق في وجهه ، يرفع كفه الغليظة ، يهوي بها على صدغها ، تفقد توازنها ، تترنح ، تقع ، تلتقط عيناها الهَلِعتان سلسلتها الذهبية المقضومة ، وقد رقدت بجانبها خرزتها الزرقاء ، خيّل إليها أن ثمة أنّات أنثوية تصدر عنها .
•••